فصل: ذكر ملك محمود بن شبل الدولة حلب

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر قتل البساسيري

أنفذ السلطان بعد استقرار الخليفة في داره جيشًا عليهم خمارتكين الطغراني في ألفي فارس نحو الكوفة فأضاف إليهم سرايا بن منيع الخفاجي وكان قد قال السلطان‏:‏ أرسل معي هذه وسار السلطان طغرلبك في أثرهم فلم يشعر دبيس بن مزيد والبساسيري إلا والسرية قد وصلت إليهم ثامن ذي الحجة من طريق الكوفة بعد أن نهبوها وأخذ نور الدولة دبيس بن مزيد رحله جميعه وأحدره إلى البطيحة وجعل أصحاب نور الدولة دبيس يرحلون بأهليهم فيتبعهم الأتراك فتقدم نور الدولة ليرد العرب إلى القتال فلم يرجعوا فمضى‏.‏

ووقف البساسيري في جماعته وحمل عليه الجيش فأسر من أصحابه أبو الفتح بن ورام وأسر منصور وبدران وحماد بنو نور الدولة دبيس وضرب فرس البساسيري بنشابة وأراد قطع تجفافه لتسهل عليه النجاة فلم ينقطع وسقط عن الفرس ووقع في وجهه ضربة ودل عليه بعض الجرحى فأخذه كمشتكين دواتي عميد الملك الكندري وقتله وحمل رأسه إلى السلطان ودخل الجند في الظعن فساقوه جميعه وأخذت أموال أهل بغداد وأموال البساسيري مع نسائه وأولاده وهلك من الناس الخلق العظيم وأمر السلطان بحمل رأس البساسيري إلى دار الخلافة فحمل إليها فوصل منتصف ذي الحجة سنة إحدى وخمسين فنظف وغسل وجعل على قناة وطيف به وصلب قبالة باب النوبي‏.‏

وكان في أسر البساسيري جماعة من النساء المتعلقات بدار الخلافة فأخذن وأكرمن وحملن إلى بغداد‏.‏

ومضى نور الدولة دبيس إلى البطيحة ومعه زعيم الملك أبو الحسن عبد الرحيم وكان من حق هذه الحوادث المتأخرة أن تذكر سنة إحدى وخمسين وإنما ذكرناها هاهنا لأنها كالحادثة الواحدة يتلو بعضها بعضًا‏.‏

وكان البساسيري مملوكًا تركيًا من مماليك بهاء الدولة بن عضد الدولة تقلبت به الأمور حتى بلغ هذا المقام المشهور واسمه أرسلان وكنيته أبو الحارث وهو منسوب إلى بسا مدينة بفارس والعرب تجعل عوض الباء فاء فتقول فسا والنسبة فساوي ومنها أبو علي الفارسي النحوي وكان سيد هذا المملوك أولًا من بسا فقيل به البساسيري لذلك وجعل العرب الباء فاء فقيل فساسيري‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة أقر السلطان طغرلبك مملان بن هسوذان بن مملان على ولاية أبيه بأذربيجان‏.‏

وفيها مات شهاب الدولة أبو الفوارس منصور بن الحسين الأسدي صاحب الجزيرة عند خوزستان واجتمعت عشيرته على ولده صدقة‏.‏

وفيها توفي الملك الرحيم آخر ملوك بني بويه بقلعة الري وكان طغرلبك سجنه أولًا بقلعة وفيها عصى أبو علي بن أبي الجبر بالبطائح وكان متقدم بعض نواحيها فأرسل إليه طغرلبك جيشًا مع عميد العراق أبي نصر فهزمهم أبو علي‏.‏

وفيها يوم النوروز أرسل السلطان مع وزيره عميد الملك إلى الخليفة عشرة آلاف دينار سوى ما أضيف إليها من الأعلاق النفيسة‏.‏

وفيها في صفر توفي أبو الفتح بن شيطا القاري الشاهد وكانت شهادته سنة خمس وأربعين وأربعمائة‏.‏

وفيها في شهر ربيع الأول توفي القاضي أبو الطيب الطبري الفقيه الشافعي وله مائة سنة وسنتان وكان صحيح السمع والبصر سليم الأعضاء يناظر ويفتي ويستدرك على الفقهاء وحضر عميد الملك جنازته ودفن عند قبر أحمد وله شعر حسن‏.‏

وفي سلخه توفي قاضي القضاة أبو الحسين علي بن محمد بن حبيب الماوردي الفقيه الشافعي وكان إمامًا وله تصانيف كثيرة منها‏:‏ الحاوي وغيره في علوم كثيرة وكان عمره ستًا وثمانين سنة‏.‏

وفي آخر هذه السنة توفي أبو عبد الله الحسين بن علي الرفا الضرير الفرضي وكان إمامًا فيها على مذهب الشافعي‏.‏

وفيها في شوال كانت زلزلة عظيمة بالعراق والموصل ووصلت إلى همذان ولبثت ساعة وفيها توفي أبو محمد عبد الله بن علي بن عياض المعروف بابن أبي عقيل وكان قد سمع الكثير من الحديث رواه‏.‏

وتوفي أيضًا القاضي أبو الحسن علي بن هندي قاضي حمص وكان وافر العلم والأدب‏.‏

  ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وأربعمائة

  ذكر وفاة فرخ زاد صاحب غزنة وملك أخيه إبراهيم

في هذه السنة في صفر توفي الملك فرخ زاد بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة وكان قد ثار به مماليكه سنة خمسين واتفقوا على قتله فقصدوه وهو في الحمام وكان معه سيف فأخذه وقاتلهم ومنعهم عن نفسه حتى أدركه أصحابه وخلصوه وقتلوا أولئك الغلمان‏.‏

وصار بعد أن نجا من هذه الحادثة يكثر ذكر الموت ويحتقر الدنيا ويزدريها وبقي كذلك إلى هذه السنة فأصابه قولنج فمات منه وملك بعده أخوه إبراهيم بن مسعود بن محمود فأحسن السيرة فاستعد لجهاد الهند ففتح حصونًا امتنعت على أبيه وجده وكان يصوم رجبًا وشعبان ورمضان‏.‏

في هذه السنة استقر الصلح بين الملك إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين وبين داود بن ميكائيل بن سلجوق صاحب خراسان على أن يكون كل واحد منهما على ما بيده ويترك منازعة الآخر في ملكه‏.‏

وكان سبب ذلك أن العقلاء من الجانبين نظروا فرأوا أن كل واحد من الملكين لا يقدر على أخذ ما بيد الآخر وليس يحصل غير إنفاق الأموال وإتعاب العساكر ونهب البلاد وقتل النفوس فسعوا في الصلح فوقع الاتفاق واليمين وكتبت النسخ بذلك فاستبشر الناس وسرهم لما أشرفوا عليه من العافية‏.‏

  ذكر وفاة داود وملك ابنه ألب أرسلان

في هذه السنة في رجب توفي جغري بك داود بن ميكائيل بن سلجوق أخو السلطان طغرلبك وقيل كان موته في صفر سنة اثنتين وخمسين وعمره نحو سبعين سنة وكان صاحب خراسان وهو مقابل آل سبكتكين ومقاتلهم ومانعهم عن خراسان فلما توفي ملك بعده خراسان ابنه السلطان ألب أرسلان وخلف داود عدة أولاد ذكور منهم‏:‏ السلطان ألب أرسلان وياقوتي وسليمان وقاروت بك فتزوج أم سليمان السلطان طغرلبك بعد أخيه وكان خيرًا عادلًا حسن السيرة معترفًا بنعمة الله تعالى عليه شاكرًا عليها فمن ذلك أنه أرسل إلى أخيه طغرلبك مع عبد الصمد قاضي سرخس يقول له‏:‏ بلغني إخرابك البلاد التي فتحتها وملكتها وجلا أهلها عنها وهذا ما لا خفاء به في مخالفة أمر الله تعالى في عباده وبلاده وأنت تعلم ما فيه من سوء السمعة وإيحاش الرعية‏.‏

وقد علمت أننا لقينا أعداءنا ونحن ثلاثين رجلًا وهم ثلاثمائة فغلبناهم وكنا في ثلاثمائة وهم في ثلاثة آلاف فغلبناهم وكنا في ثلاثة آلاف وهم في ثلاثين ألفًا فدفعناهم وقاتلنا بالأمس شاه ملك وهو في أعداد كثيرة متوافرة فقهرناه وأخذنا مملكته بخوارزم وهرب من بين أيدينا إلى خمسمائة فرسخ من موضعه فظفرنا به وأسرناه وقتلناه واستولينا على ممالك خراسان وطبرستان وسجستان وصرنا ملوكًا متبوعين بعد أن كنا أصاغر تابعين وما تقتضي نعم الله علينا أن نقابلها هذه المقابلة‏.‏

فقال طغرلبك‏:‏ قل له في الجواب‏:‏ يا أخي أنت ملكت خراسان وهي بلاد عامرة فخربتها ووجب عليك مع استقرار قدمك عمارتها وأنا وردت بلادًا خربها من تقدمني واجتاحها من كان قبلي فما أتمكن من عمارتها والأعداء محيطة بها والضرورة تقود إلى طرقها بالعساكر ولا يمكن دفع مضرتها عنها‏.‏

  ذكر حريق بغداد

في هذه السنة احترقت بغداد‏:‏ الكرخ وغيره وبين السورين واحترقت فيه خزانة الكتب التي وقفها أردشير الوزير ونهبت بعض كتبها وجاء عميد الملك الكندري فاختار من الكتب خيرها وكان بها عشرة آلاف مجلد وأربعمائة مجلد من أصناف العلوم منها‏:‏ مائة مصحف بخطوط بني مقلة وكان العامة قد نهبوا بعضها لما وقع الحريق فأزالهم عميد الملك وقعد يختارها فنسب ذلك إلى سوء سيرته وفساد اختياره وشتان بين فعله وفعل نظام الملك الذي عمر المدارس ودون العلم في بلاد الإسلام جميعها ووقف الكتب وغيرها‏.‏

  ذكر انحدار السلطان إلى واسط وما فعل العسكر وإصلاح دبيس

في هذه السنة انحدر السلطان طغرلبك إلى واسط بعد فراغه من أمر بغداد فرآها قد نهبت وحضر عنده هزارسب بن بنكير وأصلح معه حال دبيس بن مزيد وأحضره معه إلى خدمة السلطان وأصعد في صحبته إلى بغداد وكذلك صدقة بن منصور بن الحسين وضمن واسطًا أبو علي بن فضلان بمائتي ألف دينار وضمن البصرة الأغر أبو سعد سابور بن المظفر وعبر السلطان إلى الجانب الشرقي من دجلة وسار إلى قرب البطائح فنهب العسكر ما بين واسط والبصرة والأهواز‏.‏

وأصعد السلطان إلى بغداد في صفر سنة اثنتين وخمسين ومعه أبو الفتح بن ورام وهزارسب بن بنكير بن عياض ودبيس بن مزيد وأبو علي ابن الملك أبي كاليجار وصدقة بن منصور بن الحسين وغيرهم واجتمع السلطان بالخليفة وأمر الخليفة بعمل طعام كثير حضره السلطان والأمراء وأصحابهم وعمل السلطان أيضًا سماطًا أحضر فيه الجماعة وخلع عليهم وسار إلى بلاد الجبل في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وجعل ببغداد شحنة الأمير برسق وضمنها أبو الفتح المظفر بن الحسين ثلاث سنين بأربع مائة ألف دينار‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة عزل أبو الحسين بن المهتدي من الخطابة بجامع المنصور لأنه خطب للعلوي ببغداد في الفتنة وأقيم مقامه بهاء الشرف أبو علي الحسن بن عبد الودود بن المهتدي بالله‏.‏

وفيها توفي علي بن محمود بن إبراهيم الزوزني أبو الحسن صحب أبا الحسن الجصري وروى عن أبي عبد الرحمن السلمي وهو الذي نسب إليه رباط الزوزني المقابل لجامع المنصور‏.‏

وفيها في جمادى الأولى توفي محمد بن علي بن الفتح بن محمد بن علي أبو طالب العشاري ومولده في المحرم سنة ست وستين وثلاثمائة وسمع الدارقطني وغيره‏.‏

  ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة

  ذكر عود ولي العهد إلى بغداد مع أبي الغنائم بن المحلبان

في جمادى الآخرة ورد عدة الدين أبو القاسم المقتدي بأمر الله ولي العهد ومعه جدته أم الخليفة وخرج الناس لاستقباله وجلس في الزبزب على رأسه أبو الغنائم بن المحلبان وقدم له بباب الغربة فرس فحمله ابن المحلبان على كتفه وأركبه وسلمه إلى مجلس الخليفة فشكره وخرج ابن المحلبان فركب في الزبزب وانحدر إلى دار أفردت له بباب المراتب ودخل إلى الخليفة واجتمع به‏.‏

وكان سبب مصير ولي العهد مع ابن المحلبان أنه دخل داره فوجد زوجة رئيس الرؤساء وأولاده بها وهم مطالبون من البساسيري فعرفوه أن رئيس الرؤساء أمرهم بقصده فأدخلهم إلى أهله وأقام لهم من حملهم إلى ميافارقين فساروا مع قرواش لما أصعد من بغداد ولم يعلم ثم لقيه أبو الفضل محمد بن عامر الوكيل وعرفه ما عليه ولي العهد ومن معه من إيثار الخروج من بغداد وما هم عليه من تناقض الحال فبعث ابن المحلبان زوجته فأتته بهم سرًا فتركهم عنده ثمانية أشهر وكان يحضر ابن البساسيري وأصحابه ويعمل لهم الدعوات وولي العهد ومن معه مستترون عنده يسمعون ما يقول أولئك فيهم‏.‏

ثم اكترى لهم وسار هو في صحبتهم إلى قريب سنجار ثم حملوا إلى حران وسار مع صاحبها أبي الزمام منيع بن وثاب النميري حين قصد الرحبة وفتح قرقيسيا وعقد لعدة الدين على بنت منيع وانحدروا إلى بغداد‏.‏

  ذكر ملك محمود بن شبل الدولة حلب

في هذه السنة في جمادى الآخرة حضر محمود بن شبل الدولة بن صالح بن مرداس الكلابي مدينة حلب وضيق عليها واجتمع مع جمع كثير من العرب فأقام عليها فلم يتسهل له فتحها فرحل عنها ثم عاودها فحصرها فملك المدينة عنوة في جمادى الآخرة بعد أن حصرها وامتنعت القلعة عليه‏.‏

وأرسل من بها إلى المستنصر بالله صاحب مصر ودمشق يستنجدونه فأمر ناصر الدولة أبا محمد الحسين بن الحسن بن حمدان الأمير بدمشق أن يسير بمن عنده من العساكر إلى حلب يمنعها من محمود فسار إلى حلب فلما سمع محمود بقربه منه خرج من حلب ودخلها عسكر ناصر الدولة فنهبوها‏.‏

ثم إن الحرب وقعت بين محمود وناصر الدولة بظاهر حلب واشتد القتال بينهم فانهزم ناصر الدولة وعاد مقهورًا إلى مصر وملك محمود حلب وقتل عمه معز الدولة واستقام أمره بها وهذه الوقعة تعرف بوقعة الفنيدق وهي مشهورة‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة خلع السلطان طغرلبك على محمود بن الأخرم الخفاجي وردت إليه إمارة بني خفاجة وولاية الكوفة وسقي الفرات وضمن خواص السلطان هناك بأربعة آلاف دينار كل سنة وصرف عنها رجب بن منيع‏.‏

وفيها توفي أبو محمد النسوي صاحب الشرطة ببغداد وقد جاوز ثمانين سنة‏.‏

وفيها سد بنو ورام بثق النهروانات وشرع العميد أبو الفتح في عمارة بثوق الكرخ‏.‏

وفيها في ذي القعدة توفيت خاتون زوجة السلطان طغرلبك بزنجان فوجد عليها وجدًا وفيها ثالث جمادى الآخرة انقض كوكب عظيم القدر عند طلوع الفجر من ناحية المغرب إلى ناحية المشرق فطال لبثه‏.‏

وفيها جمع عطية بن صالح بن مرداس جمعًا وحصر الرحبة وضيق على أهلها فملكها في صفر من هذه السنة‏.‏

وفيها توفيت والدة الخليفة القائم بأمر الله واسمها قطر الندى وقيل بدر الدجى وقيل علم وهي جارية أرمينية‏.‏

وفيها توفي محمد بن الحسين بن محمد بن الحسن أبو علي المعروف بالجازري النهرواني وكان مكثرًا من الرواية الجازري بالجيم وبعد الألف زاي ثم راء‏.‏

وفيها توفي باي أبو منصور الفقيه الجيلي بالباء الموحدة وبعد الألف ياء تحتها نقطتان ومحمد بن عبيد بن أحمد بن محمد أبو عمرو بن أبي الفضل الفقيه المالكي‏.‏

  ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة

  ذكر وزارة ابن دارست للخليفة

لما عاد الخليفة إلى بغداد استخدم أبا تراب الأثيري في الإنهاء وحضور المواكب ولقبه حاجب الحجاب وكان قد خدمه بالحديث وقرب منه فخاطب الشيخ أبو منصور بن يوسف في وزارة أبي الفتح منصور بن أحمد بن دارست وقال إنه يخدم بغير إقطاع ويحمل مالًا فأجيب إلى ذلك فأحضر من الأهواز إلى بغداد وخلع عليه خلعة الوزارة منتصف ربيع الآخر وجلس في منصبه ومدح الشعراء فممن مدحه وهنأه أبو الحسن الخباز بقصيدة منها‏:‏ أمن الملك بالأمين أبي الفت - ح وصدت عن صفوة الأقذاء دولة أصبحت وأنت ولي الرأي فيها لدولة غراء وهي طويلة‏.‏

وكان ابن دارست في أول أمره تاجرًا للملك أبي كاليجار‏.‏

  ذكر موت المعز بن باديس وولاية ابنه تميم

في هذه السنة توفي المعز بن باديس صاحب إفريقية من مرض أصابه وهو ضعف الكبد وكانت مدة ملكه سبعًا وأربعين سنة وكان عمره لما ملك إحدى عشرة سنة وقيل ثماني سنين وستة أشهر‏.‏

وكان رقيق القلب خاشعًا متجنبًا لسفك الدماء إلا في حد حليمًا يتجاوز عن الذنوب العظام حسن الصحبة مع عبيده وأصحابه مكرمًا لأهل العلم كثير العطاء لهم كريمًا وهب مرة ألف دينار للمستنصر الزناتي وكان عنده وقد جاء هذا المال فاستكثره فأمر به فأفرغ بين يديه ثم وهبه له فقيل له‏:‏ لم أمرت بإخراجه من أوعيته قال‏:‏ لئلا يقال لو رآه ام سمحت نفسه به وكان له شعر حسن‏.‏

ولما مات رثاه الشعراء فمنهم أبو الحسن بن رشيق فقال‏:‏ لكل حي وإن طال المدى هلك لا عز مملكة يبقى ولا ملك ولى المعز على أعقابه فرمى أو كاد ينهد من أركانه الفلك مضى فقيدًا وأبقى في خزائنه هام الملوك وما أدراك ما ملكوا ما كان إلا حسامًا سله قدر على الذين بغوا في الأرض وانهمكوا كأنه لم يخض للموت بحر وغىً خضر البحار إذا قيست به برك ولم يجد بقناطير مقنطرة قد أرخت باسمه إبريزها السكك روح المعز وروح الشمس قد قبضا فانظر بأي ضياء يصعد الفلك ولما توفي ملك بعده ابنه تميم وكان مولد تميم بالمنصورية التي هي مقره منتصف رجب سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة وولاه المهدية في صفر سنة خمس وأربعين وأقام بها إلى أن وافاه أبوه المعز لما انتزح عن القيروان من العرب وقام بخدمة أبيه وأظهر من طاعته وبره ما بان به كذب ما كان ينسب إليه‏.‏

ولما استبد بالملك بعد أبيه سلك طريقه في حسن السيرة ومحبة أهل العلم إلا أنه كان أصحاب البلاد قد طمعوا بسبب العرب وزالت الهيبة والطاعة عنهم في أيام المعز فلما مات ازداد طمعهم وأظهر كثير منهم الخلاف فممن أظهر الخلاف القائد حمو بن مليك صاحب سفاقس واستعان بالعرب وقصد المهدية ليحاصرها فخرج إليه تميم وصافه فاقتتلوا فانهزم حموا وأصحابه وكثر القتل فيهم ومضى حمو ونجا بنفسه وتفرقت خيله ورجاله وكان ذلك سنة خمس وخمسين‏.‏

  ذكر وفاة قريش صاحب الموصل وإمارة ابنه شرفة الدولة

في هذه السنة توفي قريش بن بدران صاحب الموصل ونصيبين أصابه خروج الدم من فيه وأنفه وعينيه وأذنيه فحمله ابنه شرف الدولة إلى نصيبين حتى حفظ خزانته بها وتوفي هناك‏.‏

وسمع فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير حاله فسارا من دارا إلى نصيبين وجمع بني عقيل على أن يؤمروا ابنه أبا المكارم مسلم بن قريش عليهم وكان القائم بأمره جابر بن ناشب فزوجه فخر الدولة بأخت مسلم وزوج مسلمًا بابنة نصر بن منصور‏.‏

  ذكر وفاة نصر الدولة بن مروان

في هذه السنة توفي نصر الدولة أحمد بن مروان الكردي صاحب ديار بكر ولقبه القادر بالله نصر الدولة وكان عمره نيفًا وثمانين سنة وإمارته اثنتين وخمسين سنة واستولى على الأمور ببلاده استيلاء تامًا وعمر الثغور وضبطها وتنعم تنعمًا لم يسمع بمثله عن أحد من أهل زمانه‏.‏

وملك من الجواري المغنيات ما اشترى بعضهن بخمسة آلاف دينار وأكثر من ذلك وملك خمسمائة سرية سوى توابعهن وخمسمائة خادم‏.‏

وكان في مجلسه من الآلات ما تزيد قيمته على مائتي ألف دينار وتزوج من بنات الملوك جملة وأرسل طباخين إلى الديار المصرية وغرم على إرسالهم جملة وافرة حتى تعلموا الطبخ من هناك‏.‏

وأرسل إلى السلطان طغرلبك هدايا عظيمة من جملتها الجبل الياقوت الذي كان لبني بويه اشتراه من المكل العزيز أبي منصور بن جلال الدولة وأرسل معه مائة ألف دينار سوى ذلك‏.‏

ووزر له أبو القاسم بن المغربي وفخر الدولة بن جهير ورخصت الأسعار في أيامه وتظاهر الناس بالأموال ووفد إليه الشعراء وأقام عنده العلماء والزهاد‏.‏

وبلغه أن الطيور في الشتاء تخرج من الجبال إلى القرى فتصاد فأمر أن يطرح لها الحب من الأهراء التي له فكانت في ضيافته طول عمره‏.‏

ولما مات اتفق وزيره فخر الدولة بن جهير وابنه نصر فرتب نصرًا في الملك بعد أبيه وجرى بينه وبين أخيه سعيد حروب شديدة كان الظفر في آخرها لنصر فاستقر في الإمارة بميافارقين وغيرها وملك أخوه سعيد آمد‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في رجب خلع على الكامل أبي الفوارس طراد بن محمد الزينبي وقلد نقابة النقباء ولقب الكامل ذا الشرفين‏.‏

وفيها تولي شمس الدين أسامة بن أبي عبد الله بن علي نقابة العلويين ببغداد ولقب المرتضى‏.‏

وفيها في جمادى الأولى انكسفت الشمس جميعها فظهرت الكواكب وأظلمت الدنيا وسقطت الطيور الطائرة‏.‏

قوض خيامك عن أرض تضام بها وجانب الذل إن الذل مجتنب وارحل إذا كان في الأوطان منقصة فالمندل الرطب في أوطانه حطب وفيها توفي أبو القاسم علي بن محمد بن يحيى الشمشاطي بدمشق وكان عالمًا بالهندسة والرياضيات من علوم الفلاسفة وإليه ينسب الرباط الذي عند جامع دمشق‏.‏

  ثم دخلت سنة أربع وخمسين وأربعمائة

  ذكر نكاح السلطان طغرلبك ابنة الخليفة

في هذه السنة عقد للسلطان طغرلبك على ابنة الخليفة القائم بأمر الله وكانت الخطبة تقدمت سنة ثلاث وخمسين مع أبي سعد قاضي الري فانزعج الخليفة من ذلك وأرسل في الجواب أبا محمد التميمي وأمره أن يستعفي فإن أعفي وإلا تمم الأمر على أن يحمل السلطان ثلاثمائة ألف دينار ويسلم واسطًا وأعمالها‏.‏

فلما وصل إلى السلطان ذكر لعميد الملك الوزير ما ورد فيه من الاستعفاء

فقال‏:‏ لا يحسن أن يرد الس وقد سأل وتضرع ولا يجوز مقابلته أيضًا بطلب الأموال والبلاد فهو يفعل أضعاف ما طلب منه‏.‏

فقاتل التميمي‏:‏ الأمر لك ومهما فعلته فهو الصواب فبنى الوزير الأمر على الإجابة وطالع به الس فسر به وجمع الناس وعرفهم أن همته سمت به إلى الاتصال بهذه الجهة النبوية وبلغ من ذلك ما لم يبلغه سواه من الملوك‏.‏

وتقدم إلى عميد الملك الوزير أن يسير ومعه أرسلان خاتون زوجة الخليفة وأن يصحبها مائة ألف دينار برسم الحمل وما شاكلها من الجواهر وغيرها ووجه معه فرامرز بن كاكويه وغيره من وجوه الأمراء وأعيان الري‏.‏

فلما وصل إلى الإمام القائم بأمر الله وأوصل خاتون زوجة الخليفة إلى دارها وأنهى حضوره وحضور من معه ذكر حال الوصلة فامتنع الخليفة من الإجابة إليها وقال‏:‏ إن أعفينا وإلا خرجنا من بغداد‏.‏

فقال عميد الملك‏:‏ كان الواجب الامتناع من غير اقتراح وعند الإجابة إلى ما طلب فالامتناع سعي على دمي وأخرج خيامه إلى النهروان فاستوقفه قاضي القضاة والشيخ أبو منصور بن يوسف وأنهيا إلى الخليفة عاقبة انصرافه على هذا الوجه وصنع له ابن دارست وزير الخليفة دعوة فحضر عنده فرأى على مسجد مكتوبًا‏:‏ معاوية خال علي فأمر بحكه‏.‏

وكتب من الديوان إلى خمارتكين الطغرائي كتابًا يتضمن الشكوى من عميد الملك فورد الجواب عليه بالرفق وكتب الخليفة إلى عميد الملك‏:‏ نحن نرد الأمر إلى رأيك ونعول على أمانتك

فحضر يومًا عند الخليفة ومعه جماعة من الأمراء والحجاب والقضاة والشهود فأخذ المجلس لنفسه ولم يتكلم سواه وقال للخليفة‏:‏ أسأل مولانا أمير المؤمنين التطول بذكر ما شرف به العبد المخلص شاهنشاه ركن الدين فيما رغب فيه ليعرفه الجماعة‏.‏

فغالطه وقال‏:‏ قد سطر في المعنى ما فيه كفاية‏.‏

فانصرف عميد الملك مغظًا ورحل في السادس والعشرين من جمادى الآخرة وأخذ المال معه إلى همذان وعرف السلطان أن السبب في اتفاق الحال من خمارتكين الطغرائي‏.‏

فتغير السلطان عليه فهرب في ستة غلمان‏.‏

وكتب السلطان إلى قاضي القضاة والشيخ أبي منصور بن يوسف يعتب ويقول‏:‏ هذا جزاء من الخليفة الذي قتلت أخي في خدمته وأنفقت أموالي في نصرته وأهلكت خواصي في محبته‏.‏

وأطال العتاب وعاد الجواب إليه بالاعتذار‏.‏

وأما الطغرائي فإنه أدرك ببروجرد فقال أولاد إبراهيم ينال للسلطان‏:‏ إن هذا قتل أبانا ونسأل أن نمكن من قتله وأعانهم عميد الملك فأذن لهم في قتله فساروا إلى طريقه وقتلوه وجعل مكانه ساوتكين وبسط الكندري لسانه‏.‏

وطلب طغرلبك ابنة أخيه زوجة الخليفة لتعاد إليه وجرى ما كاد يفضي إلى الفساد الكلي‏.‏

فلما رأى الخليفة شده الأمر أذن في ذلك وكتب الوكالة باسم عميد الملك وسيرت الكتب مع أبي الغنائم بن المحلبان وكان العقد في شعبان سنة أربع وخمسين بظاهر تبريز وهذا ما لم يجر للخلفاء مثله فإن بني بويه مع تحكمهم ومخالفتهم لعقائد الخلفاء لم يطمعوا في مثل هذا ولا ساموهم فعله‏.‏

وحمل السلطان أموالًا كثيرة وجواهر نفيسة للخليفة ولولي العهد وولجهة المطلوبة ولوالدتها وغيرهم وجعل بعقوبا وما كان بالعراق للخاتون زوجة السلطان التي توفيت للسيدة ابنة الخليفة

  ذكر عزل ابن دارست ووزارة ابن جهير

في هذه السنة عزل أبو الفتح محمد بن منصور بن دارست من وزراة الخليفة‏.‏

وسببه أنه وصل معه إنسان يهودي يقال له ابن علان فضمن أعمال الوكلاء التي لخاص الخليفة بستة آلاف كر غلة ومائة ألف دينار فصح منها ألفا كر وثلاون ألف دينار وانكسر الباقي فظهر عجز ابن دارست ووهنه فعزل وعاد إلى الأهواز فتوفي بها سنة سبع وستين‏.‏

وكان فخر الدولة أبو نصر بن جهير وزير نصر الدولة بن مروان قد أرسل يخطب الوزارة وبذل فيها بذولًا كثيرة فأجيب إليها وأرسل كامل طراد الزينبي إلى ميافارقين كأنه رسول فلما عاد سار معه ابن جهير كالمودع له فتمم السير معه‏.‏

وخرج ابن مروان في أثره فلم يدركه فلما وصل إلى بغداد خرج الناس إلى استقباله وخلع عليه خلع الوزارة يوم عرفة ولقب فخر الدولة واستقر في الوزارة ومدحه وهنأه ابن الفضل وغيره من الشعراء‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة عم الرخص جميع الأصقاع فبيع بالبصرة ألف رطل من التمر بثمانية قراريط‏.‏

وفيها توفي القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعي بمصر‏.‏

وفيها سار السلطان طغرلبك إلى قلعة الطرم من بلاد الديلم وقرر على مسافر ملكها مائة ألف دينار وألف ثوب‏.‏

وفيها مات أبو علوان ثمالل بن صالح بن مرداس الملقب معز الدولة بحلب وقام أخوه عطية مقامه‏.‏

وتوفي الحسن بن علي بن محمد أبو محمد الجوهري ومولده سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وكان من الأئمة المكثرين من سماع الحديث وروايته وهو آخر من حدث عن أبي بكر القطيعي والأبهري وابن شاذان وغيرهم‏.‏